الأخبار

وجهة نظرأسئلة أحداث العيون

التعامل السياسي مع أحداث العيون يقتضي النظر إليها على ثلاثة مستويات. الأول، يقتضي فهم ما وقع يوم “الاثنين الأسود” من جانب أمني وحقوقي وقانوني وماذا يعنيه كل ذلك خصوصا من وجهة نظر دولة الحق والقانون. المستوى الثاني، نسائل فيه حيثيات ما وقع وكيف وصل الأمر إلى درجة اقتربت معها الأمور من الانفلات على المستويين الأمني والسياسي. أما المستوى الثالث، فيقتضي مراجعة وتقييم للمقاربة التي اعتمدت إلى حد الآن على مستوى تدبير الشأن الصحراوي. أحداث العيون مؤلمة ولكنها مناسبة تاريخية للمساءلة والنقاش الهادئ حول نجاعة التوجه الذي ساد تدبير القضايا الأمنية والسياسية المتعلقة بملف الصحراء.
أولا، لا أحد يجادل في أن أحداث يوم الاثنين 8 نوفمبر هي أعمال إجرامية خارجة عن القانون، استغلت بموجبها مجموعة من الأشخاص المسخرين من الداخل والخارج وجود مطالب اجتماعية صرفة للابتزاز والاستثمار السياسي والإعلامي، كما استغلت جو الحرية والحقوق للخروج عن القانون والتدبير اللامشروع للمخيم واحتجاز المواطنين رهائن في إطار مفاوضات تكبر وتصير تعجيزية يوما عن يوم. مقاربة السلطات إبان المفاوضات وبعد أن أصبح المخيم أمرا واقعا كانت سليمة وهادئة حيث أرادت التوصل إلى حل مرض دون اللجوء إلى استعمال القوة. غير أن من ركبوا على القضية ما كان يهمهم هو فرض أمر واقع يتم بموجبه استغلال المخيم لأغراض سياسية. إبان المواجهة مارست قوات الأمن عملية ضبط للنفس مثالية ولكن اللجوء إلى استعمال أكثر للقوة كان سيكون مشروعا لو حصل. أن يكون الضحايا فقط من قوات الأمن هو شيء يحسب للسلطة الأمنية في التعامل مع الأحداث ولكن هذا لا يجب أن يفسر على أنه ضعف أو جبن.
ما علينا كلنا إدراكه هو أن حقوق الإنسان ملتصقة التصاقا وطيدا بدولة القانون. بدون استعمال صارم لسلطة القانون لا نضمن حقوق الأفراد والجماعات. إن الحقوق تقتضي مسؤوليات كذلك ومن أضرم النار وعاث في الأرض فسادا ولم يستسلم لقوات حفظ الأمن فإنه تخلى عن مسؤولياته وواجباته وبذلك تخلى عن حقه في التظاهر حسب ما يحدده القانون. من يضرم النار في ممتلكات الناس فهو يهضم حقوق الآخرين ووجب استعمال جميع الوسائل في حقه لكي لا يتمادى في إحداث الفوضى، أي في عدم تحمل مسؤوليته كمواطن له حقوق وواجبات. من لم يتحمل مسؤوليته يتم استصدار حقوقه ما عدا حقوقه في الدفاع ومحاكمة عادلة إن تم تقديمه للمحاكمة.
ثانيا، نتساءل كيف أن مخيما بهذا الحجم تم بناؤه وتنظيمه دون أن تحرك السلطة ساكنا؟ أين كانت السلطات المحلية والوالي حين تم نصب أول خيمة؟ مخيم بهذا الحجم اقتضى تعبئة لوجستيكية كبيرة من خيام وسيارات وعتاد وتموين. هل مر كل هذا أمام أعين السلطات دون أن تضع حدا له في مهده؟ هناك من يقول، وهذا شيء غير مؤكد، أن حسابات سياسوية بين السلطات الإقليمية والمنتخبين ساعد في غض الطرف عن المخيم لكي ينال طرف من الطرف الآخر. إذا كان هذا صحيح ففيه تلاعب خطير بمصالح الوطن العليا. نسمع الكثير عن أن هناك صراعا خفيا، له أبعاد حزبية وسياسوية ضيقة، بين بعض الأطراف، وإن تأكد ذلك فإن في الأمر ما يدعو إلى الاستغراب خصوصا وأن هذا فيه لعب بالنار قد لا تحمد عقباه.
كادت العيون أن تنفلت أمنيا يوم الاثنين، ولو حدث ذلك لكان منعرجا خطيرا في قضيتنا الوطنية الأولى. أن يكون ذلك من فعل عناصر إرهابية وإجرامية تسللت إلى الصحراء ضمن فلول “العائدين” فهذا أمر سنواجهه جميعا بحزم وقوة ولكن أن تكون بعض الأطراف، قد تغاضت عن ذلك ولم تواجهه في حينه، ففي ذلك لعب بالنار خطير يجب محاسبة المسؤولين عليه.
من جانب آخر، قد يتساءل المرء كيف أن المئات من العائدين لم يتم التأكد من هويتهم ولا من أهدافهم ولكن تمت مكافأتهم بطريقة ساذجة وإعطاؤهم الفرصة ليعيثوا في الأرض فسادا.
أنا أعرف بحكم عملي على ملف اللاجئين الكوريين الشماليين أن كوريا الجنوبية تستقبل العائدين أو الفارين من جحيم كوريا الشمالية بصدر رحب ولكنها تضعهم في مراكز للاستقبال لمدة ستة أشهر يتم خلالها التأكد من نواياهم ويتم تدريبهم وتوجيههم لمواجهة شروط الحياة في كوريا الجنوبية. لماذا لا نفعل شيئا من هذا القبيل؟ المقاربة المتبعة حاليا، هي نافذة مفتوحة على مصراعيها تعطي للمخابرات الجزائرية أو البوليساريو أو حتى القاعدة أو هم جميعا الفرصة لدس عناصر داخل فلول العائدين واستعمالهم كقنابل موقوتة يتم التحكم فيها عن بعد عندما يحين الوقت وتسنح الفرصة.
ثالثا، لقد استنفذت المقاربة الريعية التي تم اعتمادها إلى حد الآن في الصحراء كل عوامل قوتها. أقاليم الصحراء معفاة من الضرائب. والكثير من أبنائها يتوفرون على بطاقات الإنعاش، والكثير من العائدين يستفيدون من امتيازات إما عقارية أو مالية أو توظيفات إلخ، بينما يستفيد المسؤولون السابقون في البوليساريو ممن يعودون إلى أرض الوطن من وظائف سامية إلخ. هذه السياسة التي تم اتباعها منذ بداية الصراع أعطت أكلها وكانت مفيدة إلى زمن ليس بالبعيد. ولكنها لها سلبيات كثيرة وآن الأوان للوقوف عندها. أولها، أن نخبا معينة ومعروفة استفادت أكثر وبشكل فادح في بعض الأحيان دون الكثير، خصوصا الشباب المتعلم مما يجعل هذا الأخير لقمة صائغة في أيدي بائعي الأحلام البوليزاريين. ثانيا، المقاربة الريعية جعلت الدينامية الاقتصادية في المنطقة لا تعتمد كثيرا على المبادرة الحرة مما يفوت على المنطقة إمكانية الإقلاع الاقتصادي شأنها شأن المناطق الأخرى. ثالثا، ريع الدولة خلق انتظارات لا متناهية عند الكثير وهي انتظارات ما فتئت تكبر إلى درجة يصعب التعامل معها أو حتى التجاوب مع البعض منها. لهذا فالريع يولد الإحباط والإحساس بالإقصاء. الجزائر مثلا تتربع على مخزون هائل من البترول وتجني عائدات سنوية بالمليارات من الدولارات ومع ذلك فالإحباط والسخط هو في أعلى درجاته في الشارع الجزائري. رابعا، الريع يولد الابتزاز ويجعل العلاقة بين الحكومة والمواطن علاقة زبونية تتحكم فيها اعتبارات المصلحة لا المواطنة والانتماء.
أخيرا، ما العمل؟ كيف نجعل من أحداث العيون المؤلمة والمؤسفة مصدرا لدروس نواجه بها المستقبل بصرامة أكبر ونجاعة أحسن؟ أولا، علينا ربح المقاربة الإعلامية . خسرنا أرواحا ثمينة في المواجهات ولكن خسرنا كذلك المعركة الإعلامية حين لم نقدر على تسويق موقفنا على مستوى الإعلام الدولي ولم تكن لنا خطة لمواجهة السيل العارم من المواقف الناقدة. علينا وضع إستراتيجية إعلامية مضبوطة يلعب فيها الكل دوره بشكل أكثر تنظيما وأكثر تنسيقا مما نفعله الآن. الإستراتيجية الإعلامية تقتضي صياغة إرساليات واضحة حول ما وقع وحول موقفنا من القضية بشكل عام. مع الأسف لا نتوفر على ذلك حيث أن وزارة الإعلام غائبة عن هذا المجهود ووزارة الخارجية تكتفي بمواقف ثابتة وغير مرنة لا تخول لها التعاطي مع كل المستجدات. الإستراتيجية الإعلامية ضرورة ملحة ومستعجلة وسأرجع إلى هذا الموضوع في وقت لاحق. بالإضافة إلى ذلك يجب تبني مقاربة أمنية مختلفة للتعاطي مع قضايا حقوق الإنسان في علاقتها مع دولة القانون وكذلك مقاربة ناجعة للتعامل مع العائدين وانفصاليي الداخل. لنتجاوز المواقف المتذبذبة ونتبنى مقاربة واضحة وقابلة للتسويق. علينا كذلك أن نفتح نقاشا ذكيا وهادئا حول كيفية تجاوز المقاربة الريعية إلى مقاربة تعطي أبناء الصحراء القدرة على الخلق والإبداع والابتكار في إطار دينامية اقتصادية مبنية على المبادرة الحرة، بتشجيع من الدولة بالطبع، ولكن مع تجاوز منطق الاتكالية والانتظارية.
أحداث العيون الإجرامية كانت مفجعة بكل المقاييس ولكنها فرصة لا تعوض لكي نعيد النظر في مقارباتنا وسياساتنا ونستشف المستقبل بأعين أكثر نقدية وأكثر واقعية.

لحسن حداد (*)

(*) باحث في الدراسات الإستراتيجية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى